...
...
ممدوح جمال الدين

الخمول

1/24/2022 12:24:00 AM

مقدمة افتتاحية:

هذا هو المقال الثاني من بين مجموعة من المقالات التي يتناول فيها الكاتب الظروف الخاصة (بالسجناء الجنائيين) داخل مراكز الاصلاح والتأهيل- السجون سابقا- بهدف البحث عن أفضل طرق اعادة تأهيلهم ودمجهم بعد الافراج عنهم، وتقليل معدلات الإجرام، والحد من جرائم العود.

كما يزهر الغرض من كتابة هذه المقالات فى تقديم الأراء الباحثة فى الإجراءات الناجحة اصلاحات السجون عبر الدول المختلفة، وصياغة أفضلها وأقربها الى الواقعيه ووضعها بين يدي المسئولين عن تطبيق العدالة الجنائية فى مصر، وذلك بغية دعم أحد الفئات الأكثر تهميشا داخل المجتمع المصري وهم (السجناء/ السجينات _ المجرمين/ات)

يأتي ذلك في سياق وصف موقف حقيقي مر به الكاتب داخل السجن منذ سنوات عديدة، ثم اسقاط هذا الموقف على  أحدي الإشكاليات التي يواجهها السجناء الجنائيون سواء داخل مراكز الاصلاح والتأهيل أو خارجها بعد الافراج عنهم.

 

 

_الخمول_

 

المشهد الأول: شتاء عام 2014_ الليلة الأولى داخل زنزانة جرائم النفس (جرائم الاعتداء مثل القتل والاغتصاب)

 

استقيظت بعد ان استغرقت فى النوم ثلاثة ساعات تقريبا، كانت هذه هي المرة الأولى التى أنام فيها داخل السجن، نهضت ثم خطوت نحو (دورة المياه) حتى اقضى حاجتى، ليمنعني أحد السجناء ويقول  لى (بالدور) ابتسمت له ثم اعتذرت، ذلك أحد قوانين العالم داخل السجون (لكى تقضي حاجتك عليك أن تحجز فى الدور)

استدعانى عم (مسعد) أحد السجناء المتهمين بالقتل، كان فى العقد الرابع من عمره، عرفني بنفسه ثم بدء فى إلقاء التعليمات الخاصة بالحياة داخل السجن، وقال (الكلمة هنا بحساب، والحركة بحساب، انسي الحياة بره السجن، انت قاعد مع الناس دي 24 ساعة، التريض لمدة تلت ساعة، وأخره نص ساعة والباب بيتقفل) أنا بقولك الكلام ده عشان انت شكلك نضيف...

استمعت الى (عم مسعد) فى انصات تام وكالعادة أطلقت العنان الى نظرى لكى يتجول فى الزنزانة حتى أدرك وأتعرف على هذه الحياة الجديدة، وكان المشهد أن السجناء داخل الزنزانة قد قسموا أنفسهم مجموعات لكل مجموعة معيشتها الخاصة.

يقضوا وقتهم ما بين الأتى حصرا (الخروج الى التريض، الخروج الى الزيارة، الخروج الى العيادة اذا لزم الأمر، النوم، تجهيز وتناول الطعام، مشاهدة التلفاز الأرضى أو الاستماع الى الراديو اذا توفروا، لعب الكوتشينه والطاولة المصنوعتان من كرتون عبوات السجائر، رسم الوشم، الاشتغال فى المشغولات اليدوية الاكسسوارات بعض المناكفات والمشاجرات) وذلك حتى يمر الوقت واليوم يعدي..

فى صباح اليوم التالى، عند فُتح باب الزنزانة لكي نخرج الى قضاء فترة التريض، خرجت لكي استكمل مشاهدتي عن هذا العالم الجديد، ممسكا فى يدي كوباً يحتوي على مشوربا ساخنا، ووقفت أمام أخر شباك فى الدور الثالث موقع الزنزانة.

حيث انه يطل على مبني الادارة، اشاهد فى صمت عملية تنظيم دخول أسر السجناء للزيارة، اتابع فى تيهة وشرد شديدين، حتى أتى أحد السجناء وقالى لى (انت سرحان كده ليه) فقلت له أنني أبحث عن أسرتي، فرد بأكثر جملة قد كرهتها اثناء قضاء فترة عقوبتي (انت بقالك اد ايه محبوس) فقلت له لسه ماكملتش اسبوع، ليرد بأن مازال الطعام الملكي فى جوفي، وأكمل حديثه بأن أترك النظر الى أسر السجناء، فلن يُسمح بزيارة اسرتي الا بعد مرور خمسة عشر يوما على ايداعي في السجن.

 

المشهد الثانى: شتاء 2022.

اجلس داخل مكتبى مستغرقا فى قراءة كتاب للمؤلف تيري كوبرز بعنوان (الجنون فى غياهب السجون) الذي يتناول أوضاع السجون فى الولايات المتحدة الأمريكية.

حتى استوقتني جملة فى غاية الخطورة

"الحبس في زنزانة دون تفاعل اجتماعي حقيقي أو نشاط هادف يؤدي عادةً إلى تفاقم الاضطرابات العقلية بصورها كافة"

ذلك تحديدا ما تحقق وما رأيته اثناء فترة سجنى فى عام 2014 فإن حياة السجناء لم تخرج عن ما تم وصفه فى المشهد الأول..

اذا ما هو الوضع عندما نضع الشعور السلبي الناتج عن الحرمان من الحرية، بجانب الشعور السلبي الناتج عن الخمول؟

يجيب المؤلف فى قولته واصفا وضع السجون الامريكية فى السابق

"السجون التي يكون فيها التعداد أعلى بكثير من القدرة الاستيعابية المُقدرة للسجن، ينتشر فيها الخمول. ومما يزيد من تفاقم تأثر الازدحام وقف البرامج التعليمية والتأهيلية أو تقليصها، وهو ما حدث أثناء السنوات ذاتها التي حدثت فيها زيادة هائلة في أعداد السجناء.

فانخفض عدد الوظائف ذات القيمة في السجون، وتحولت من ثَم المرافق الترفيهية. وأدى تزايد العنف لتحويل صالات الألعاب الرياضية إلى مهاجع، وقلت من ثم المرافق الترفيهية، وأدي تزايد العنف الى العديد من الحبس المشدد وإطالة مدته، مع خرق عدد كبري من السجناء للقواعد وإرسالهم إلى الحبس الانفرادي؛ ما يعني فقدانهم لوظائفهم وإمكانية الوصول إلى الفصول الدراسية والمكتبية والساحة الرئيسية للسجن.

تزيل بعض الولايات أيضا ألعاب الأثقال من ساحات السجون. وبالطبع مع انخفاض أعداد الوظائف ذات القيمة في السجون وبرامج إعادة التأهيل، يقل النشاط التدريبي والإنتاجي للسجناء، ويزداد الخمول، بالإضافة إلى تراجع الأمل في تمكنهم من النجاح في حياتهم بعد الخروج من السجن"

وهنا عزيزي القارئ لابد أن اتسائل عن البرامج المطبقة داخل السجون، فإذا كانت مؤسسات الدولة المعنية قد اتخذت سبيلها فى تطوير البنية التحتية للسجون، فهل اتخذت سبيلها ايضا فى تغيير البنية الخاصة بالبرامج المنفذة داخل السجون؟ ومن الذى وضع هذه البرامج؟ أشخاص أخصائيين فى علم النفس السلوكي الادراكي وعلم الاجتماع ام هم مسئولين من هيئة الشرطة؟

بمعني أخر هل هذه البرامج يغلب عليها الجانب الانساني أم الجانب الامنى؟ هل هذه البرامج تعزز الشعور بالذات من شأنه تشجيع السجناء على المشاركة؟ أم هي برامج تقليدية منفصلة عن الواقع؟

 

يتسائل فوكو:

لماذا فشلت مؤسسة السجن؟

وفوكو هو الذى ميز منذ البداية بين تطور القانون الجنائي والمؤسسة العقابية.  ورأى أن القانون صار يهدف فى نظره إلى المجرم  كما لو كان منحرفاً أو مريضا أو خاطئاً، وأنه بدلا من عقابه يجب إصلاحه أو إشفاؤه أو إعادة تأهيله، فى حين بقى السجن على حاله كما كان قبل قرن ونص حسب تقدير فوكو نفسه. إذ ظل السجن أداة إنتاج للجريمة والانحراف كمؤسسة عملية، فالمنحرف العابر يتخرج من السجن خبيرا بإرتكاب الجرائم الموصوفة قانوناً.

 

فى رأيي المتواضع أنه لابد من استراتيجية متكاملها من البرامج التى تعزز قيمة السجناء لدي انفسهم وتدفعهم الى المشاركة بهدف تغيير سلوكهم وترك الفكر الاجرامى، كما انه لا بد ان تكون هذه الاستراتيجية موضوعه من قبل أخصائيين مدنيين لا يغلب عليهم الجانب الأمنى، وهو ليس تقليل من المسئولين الأمنيين، بل هذا ما تسير عليه أنظمة العدالة الجنائية الحديثة.

حيث تنطق أحدي الدراسات المنشورة بمجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس أن

"تكشفت للباحثين قيمة العمل فى السجون وأثره المؤكد فى تحقيق فكرة العلاج والاندماج الاجتماعى هذه ذلك لأنه فضلا عن أن العمل هو الوسيلة لإعداد المسجون لمهنة أو حرفه يكسب منها عيشه عن طريق شريف بعد خروجه إلى المجتمع فلا يببقى عالة عليه فإنه متى أنطبع فى نفس المجرم السجين حب العمل واحترامه شعر بمنزلته الأدمية وارتدت إليه الثقة فى نفسه  فانعكس ذلك على خلقه وسلوكه فاستقام حاله وأصبح مهيئاً للاندماج ثانية فى المجتمع الذى كان خارجاً عليه.. وعن طريق هذا التفكير ظهرت نظرية اتخاذ العمل فى السجن وسيلة للتقويم والتهذيب وإعداد المسجون للإندماج فى المجتمع"

حيث يجب أن تكون هذه الاستراتيجة هادفة الى تمكين السجناء من فرصة عمل حقيقية بعد الافراج عنهم، يحققوا من خلالها مفهوم الكسب والقدرة على تحمل المسئولية، فمن غير المنطقى أن تكون المهن المتاحة داخل مراكز الاصلاح والتأهيل السجون سابقا هى مهن حرفية تقليدية، فالواقع خارج السجون قد تغير كثيرا عن تلك أنواع العمل.

حيث انتهت احدي الدراسات الى:

"أن العمل يحافظ على صحة المسجون البدنية والنفسية، إذ إنه يقلل من احتمالات تعرضه للاضطرابات النفسية والعقلية التى كثيرا ما تنتاب المسجون لدى إداعه السجن، ومن أهمها، الخوف، والقلق، والحزن، والشعور باليأس والضياع، والذهول، والإستسلام، واللامبالاة، والندم، والمرض"