...
...
ممدوح جمال الدين

من صُنع الجماعة

2/24/2022 12:25:00 AM

مقدمة افتتاحية:

هذا هو المقال الأخير من بين مجموعة من المقالات التي تناول فيها الكاتب الظروف الخاصة (بالسجناء الجنائيين) داخل مراكز الاصلاح والتأهيل- السجون سابقا- بهدف البحث عن أفضل طرق اعادة تأهيلهم ودمجهم بعد الافراج عنهم، وتقليل معدلات الإجرام، والحد من جرائم العود.

يزهر الغرض من كتابة هذه المقالات فى تقديم الأراء الباحثة فى الإجراءات الناجحة اصلاحات السجون عبر الدول المختلفة، وصياغة أفضلها وأقربها الى الواقعيه ووضعها بين يدي المسئولين عن تطبيق العدالة الجنائية فى مصر، وذلك بغية دعم أحد الفئات الأكثر تهميشا داخل المجتمع المصري وهم (السجناء/ السجينات _ المجرمين/ات)

يأتي ذلك في سياق وصف موقف حقيقي مر به الكاتب داخل السجن منذ سنوات عديدة، ثم اسقاط هذا الموقف على  أحدي الإشكاليات التي يواجهها السجناء الجنائيون سواء داخل مراكز الاصلاح والتأهيل أو خارجها بعد الافراج عنهم.

 

ـ من صُنع الجماعة ـ

 

المشهد الأول: ربيع عام 2015 داخل زنزانة (السرقة)

الشمس ساطعة والطقس لطيف للغاية، وكان التوقيت قبل الظهر تقريبا، باب الزنزانة مفتوح على مصرعية لخروج (السجناء للتَرَيَّضَ) وبدون مناسبة فوجئت أن المخبر المسئول عن العنبر يستدعي (السجناء المتهمين بجرائم السرقات فقط) ويأمرهم أن يصطفوا، ثم امرهم بالخروج خارج العنبر، ومن بينهم جميع زملائي في الزنزانة، والغريب أنه تجاهلني تماما، لم يلتفت لي اطلاقا؟

دخلت الى الزنزانة ووجدت فيها سجين قد وصل من العمر أرذله، سألته عن سبب خروج زملائنا، بالرغم من ان وقت التريض قد انتهي؟  قال لى ان عربات (الطلبة) قد وصلت الى مخازن السجن، لم أدرك ماذا يقصد بـ(الطلبة) وطلبت منه أن يوضح أكثر، فأخبرني أن (الطلبة) تعبير يطلق على عملية تفريغ الشاحنات التى تصل الى مخازن السجن، تحمل هذه الشاحنات كميات كبيرة من (الزيت، والسكر، والأرز، والمكرونات، واللحوم) وجميع ما يحتاجة السجن من مؤن، حل الصمت لبعض من الثواني، ثم ألتفت له وأكملت حديثي..

·         لماذا يتحمل السجناء المتهمين بجرائم السرقات وحدهم مهام الطلبة؟ ويتم إعفاء باقى الفئات من السجناء، بالرغم من ان مؤن السجن يتم استهلاكها من جانب جميع فئات السجناء؟

 

·         لماذا لم يطلب مني المخبر أن أخرج مع زملائي بالرغم من أنني محبوس داخل زنزانة سرقة؟

 

أجاب زميلي عن السؤال الأول: أن السجناء المتهمين بجرائم السرقات، يتم التعامل معهم (بدونية واحتقار وتقليل من الذات) من جانب باقي فئات المجرمين، بالإضافة الى جميع المسئولين عن إدارة السجن يتعاملوا مع السجين المتهم بالسرقة أنه (حرامى) أو (هفاف) هذا حسب تعبيره، ومن هذا المبدأ، يتم أختيار زنازين السرقة فقط للقيام بمهام الطلبة، ويكمل زميلي حديثه، أقولك يا عم شوف الناس بره بتتعامل مع الحرامى لما بيتمسك، بيعدموه العافية؟

ثم رد زميلي على السؤال الثانى: ماحدش هنا يقدر يقولك شيل شوال من على عربية، الكلام ده لينا احنا بس..

أتذكر أيضا أحد المشاهد التى لن أنساها طوال حياتي، عندما كنت أجلس بجانب أحد السجناء الجنائيين داخل زنزانة (7/1 سرقة بالإكراه) يدعي "ابراهيم المجنون" فى بداية العقد الثالث من العمر، من منطقة مصر الجديدة، ينتسب الى أسرة متوسطة الوضع الإجتماعي، سبب دخوله السجن أنه مدمن لمخدر (الهيروين) حاول ومن بعده أسرته أن يقلع عن الإدمان وفشلت جميع محاولاته، أضطر أن يقوم بسرقة أسرته، ثم سرقة الأخرين، وذلك حتى يوفر ثمن شراء (المخدر) الى أن انتهي به الأمر داخل السجن، متهماً بجريمة السرقة بالإكراه.

أجلس بجانب (ابراهيم المجنون) الذي جمعتني به صداقة كبيرة أثناء فترة تسكيني فى الزنزانة معه، أتحدث معه بخصوص بعض (الوشم) المرسوم على جسمه وهو عبارة عن ثلاثة نقاط على شكل مثلث، فسر لي صديقي أن هذا (الوشم) هو أمر لابد منه فى عرف (الحرامية) حسب قولته، وهو يشير الى ثلاثة كلمات وهم (ماخدتش/ ماشوفتش/ ماعرفش) وتلك التى ينطق بها (سوابق السرقة) أثناء استجوابه والتحقيق معه أمام النيابة العامة، وأثناء حديثنا فوجئت أن (ابراهيم) يقوم بإخراج لفافة من فمه، ثم يقوم بالبثق عليها، ثم قام بإنزال سرواله الداخلى، وقام بوضع هذه اللفافة فى فتحة الشرج، ثم رفع سرواله، ونظر لى وابتسم، ثم قدم لي كوب من مشروب الشاي الساخن.

المشهد الثانى.

شتاء 2022 الساعة العاشرة مساء، أجلس داخل مكتبي الخاص، مستغرقاً فى قراءة مجلد (علم الإجرام) تأليف سذرلاند/ كريسى، ترجمة ومراجعة اللواء محمود السباعى/ الدكتور حسن صادق المرصفاوى.

"كان العار والتحقير يوقعان بقصد فرض الألم من طريق خفض المركز الاجتماعى للمذنب أحيانا بصفة مؤقته وأحيانا أخرى على وجه دائم، وعلى العموم ازدهرت وسيلة العقاب هذه من بداية القرن السادس عشر حتى نهاية القرن السابع عشر، ولكنها لم تختلف حتى اليوم.

وطبقت مختلف المجتمعات كثيرا من الوسائل لإنتقاص الهيبة، وشاع استعمال بعضها فى المجتمعات التى كان فيها التعذيب الجثمانى هو الطريقة الابتدائية لتطبيق رد الفعل العقابى، وعلى سبيل المثال لم يكن المغطس (وهو مكان تغطس فيه الفاجرات عقابا) والقماط والكمامة والعروسة وغيرها من التدابير مجرد طرق للعقاب الجثمانى، ولكنها كانت تستخدم كذلك كوسيلة للانتقاص من المركز الأدبى للمذنب"

أثناء قراءتى، أحاول أن أتخيل:

بطبيعة الحالة السجناء الجنائيين حين القبض عليهم للمرة الأولى، لم تكن لديهم الخبرة الكافية لمعرفة كيف أن يخزنوا المخدرات "داخل أمعاءهم" أو انهم يقوموا برسم الوشم على أجسادهم، أو أن يكون لهم طريقة خاصة فى الحديث بالمصطلحات والمعانى المختلفة عن المجتمع خارج السجون.

اذا ما الذي حدث لهم سواء داخل السجون أو بعد الافراج عنهم؟

أبدأ من لحظة القبض على السارق للمرة الأولى والحكم عليه ثم ايداعة داخل مراكز الاصلاح والتأهيل _السجون سابقا_ ثم احتجازة داخل زنزانة بها الكثير من اقرانه بل وأشد خطورة، يخالطهم ويتأثر بهم فداخل السجون لا توجد خصوصية، وفى ذات الوقت يوجد انخفاض كبير فى تطبيق برامج التأهيل والدمج، يقضى السجناء عقوبتهم، ثم يخرجوا للمجتمع، ليتعرضوا الى شكل أخر من أشكال العقوبة، وهو الوصم وعدم الترحيب، على سبيل المثال:  عدم التعيين فى الوظائف أو الإشتباه الأمنى الدائم.

ثم استكمل قراءتي:

"في كل مكان أوجد فيه أنا منبوذ اجتماعى، وأنا فريسة مشروعة لأي ضابط من ضباط القانون، كل علاقاتي مع المجتمع تشعرني بواقع وجودي خارج حدود الاحترام، واللهجة والأخلاق وتصرفات الذين يتعاملون معي كلها تنادي فى اتهام وحيد على وتيرة واحدة (أنت رجل شرير) نحن نكرهك، لقد صفعني المجتمع على خدي، وأنا لست من البشر أذن لو لم أرد هذه الصفعة"

فى رأينا المتواضع أن ممارسة النبذ والرفض المجتمعى والتمميز ضد السجناء الجنائيين، يمثل العائق الأول أمام تأهيلهم لأن يصبحوا أشخاص يحترمون نظامهم القانونى، ويعتقد الكاتب ان الأمر تعدى حد الوصم والتمييز، ووصل الى استباحة حقوق هذه الفئة أو بمعني أخر قبول التجاوزات فى حقهم.

أختتم هذا المقال الثالث والأخير من ضمن السلسلة الأولى، بأحد أعظم فقرات المجلد المشار اليه:

"يعزل العقاب عادة الشخص الذى يوقع عليه ويجعل منه عدوا ثابتا للمجتمع قد يمتد نفوذه الى أفراد أخرين، وحينما يكون ردة الفعل الوحيد عقابيا فأنه يعزل المجرمين من الجماعة التى تحترم القانون، وهم لا يفهمون هذه الجماعة وهى لا تفهمهم، ويؤدي كره الجماعة للمجرم الى كره المجرم للجماعة، ويصبح السلوك بينهما أشبه بالحرب التى تؤدى نسبيا الى عزل تام وعداوة متأصلة كالتى بين البلاد المتحاربة، فإذا عزل المجرم فلا يصبح له أحد أختيارين: أما أن يجتمع مع المجرمين الأخرين الذين قد يجد بينهم المعرفة والمركز ووسائل لاجرام أكبر، وأما يصبح مضطربا أو سيكوباتيا أو غير مستقر، وعملنا الحقيقي هو أن نسمح لكل المجرمين تقريبا بالعودة الى المجتمع فى معني مادي، وليس هو أن نبعدهم وأن نحافظ على مسافات عزلهم فى وسط الجماعة العادية، أن هذا يبقيهم مواطنين يحترمون القانون فإن الجماعة يجب أن تمتصهم وأن تعاملهم معاملة المواطنين الذين يحترمون القانون"